فصل: من فوائد الشعراوي في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

الضمير المنصوب في {يَعْرِفُونه} لا يعود إلى تحويل القبلة لأنه لو كان كذلك لصارت الجملة تكريرًا لمضمون قوله: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم}، بل هو عائد إما إلى الرسول وإن لم يسبق ذكر لمعادٍ مناسبٍ لضمير الغيبة، لكنه قد علم من الكلام السابق وتكرر خطابه فيه من قوله: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها} [البقرة: 143]، وقوله: {قد نرى تقلب وجهك} [البقرة: 144]، وقوله: {فلنولينك قبلة} [البقرة: 144]، وقوله: {فول وجهك} [البقرة: 144] فالإتيان بالضمير بطريق الغيبة من الالتفات، وهو على تقدير مضاف أي يعرفون صِدْقَهُ، وإما أن يعود إلى {الحق} في قوله السابق {ليكتمون الحق} فيشمل رسالة الرسول وجميعَ ما جاء به، وإما إلى العلم في قوله: {من بعد ما جاءك من العلم} [البقرة: 145]. اهـ.
سؤال: لم عدل عن أن يقال يعلمونه إلى {يعرفونه}؟
الجواب: عدل عن أن يقال يعلمونه إلى {يعرفونه} لأن المعرفة تتعلق غالبًا بالذوات والأمور المحسوسة قال تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} [المطففين: 24] وقال زهير:
فَلأْيًا عَرَفْتُ الدَّار بعد توهم

وتقول عرفت فلانًا ولا تقول عرفت عِلْم فلان، إلاّ إذا أردت أن علمه صار كالمشاهد عندك، ولهذا لا يعدى فعل العرفان إلى مفعولين كما تُعدى أفعال الظن والعلم، ولهذا يوصف الله تعالى بصفة العلم فيقال العليم، ولا يوصف بصفة المعرفة فلا يقال الله يعرف كذا، فالمعنى يعرفون صفات الرسول صلى الله عليه وسلم وعلاماته المذكورة في كتبهم، ويعرفون الحق كالشيء المشاهد. اهـ.
سؤال: لم خضص الذكور من الأبناء دون الإناث؟
الجواب: المراد بالأبناء الذكور لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء، وألصق وأعلق بقلوبهم من البنات، فكان ظن اشتباه أشخاصهم أبعد، وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس لأن الإنسان قد يمر عليه قطعة من الزمان لا يعرف فيها نفسه كزمن الطفولية بخلاف الأبناء فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه. اهـ.
سؤال: لم خص الفريق؟
الجواب: خص لأن منهم من أسلم ولم يكتم، والإشارة بالحق إلى ما تقدم من الخلاف في ضمير {يعرفونه}، فعم الحق مبالغة في ذمهم. اهـ.
سؤال: قال ابن عطية: لم شبّه معرفتهم له بمعرفتهم أبناءهم ولم يشبهها بمعرفتهم أنفسهم؟
وأجاب بأن الإنسان يتقدم له زمن لا يعرف فيه حال نفسه وهو زمن الصغر بخلاف ولده فإنه يشاهده من صغره إلى كبره.
قال ابن عرفة: ويحتمل عندي أن يجاب بأن ذلك التشبيه للمشاكلة لأن الكتاب منفصل عنهم فشبه بما هو منفصل عنهم وهو الولد بخلاف أنفسهم. اهـ.

.إشكال وجوابه:

فإن قيل: إن آخر الآية مناقض لأولها لأن قوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} دليل على أن جميعهم يعلمونه.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق}.
دليل على أن بعضهم يجهلونه.
فإن قلت: إنما مقتضاه أن باقيهم يعلمون الحق ويظهرونه؟
قلنا: لا يصح لوجهين: الأول: أن الضمير المجرور في قوله: {مِّنْهُم} عائد على {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} وقد قالوا: إن {الذين} بدل من {الظالمين}، فإذا كان كذلك بطل أن يكون بعضهم عالمين به ومظهرين له إذ لا يسمى فاعل ذلك ظالما.
- الثاني: {إِنَّ فَرِيقًا} إنما يطلق على القليل من الجماعة ولا يقال للنصف فريقا فيلزم أن يكون أكثرهم مظهرين للحق، وذلك مخالف لسياق الآية لأنها إنما سيقت لذمهم.
وأجاب ابن عرفة عن الإشكال باحتمال كون فيهم مِن علِم وتحقق ولم تعرض له شبهة توجب له الريبة والشك في علمه فهؤلاء هم الّذين قيل فيهم {وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. ومنهم من علم وعرضت له شبهة توجب التردد في علمه فهؤلاء هم المسكوت عنهم. اهـ.
قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
{وإن فريقًا منهم} أي أهل الكتاب {ليكتمون الحق} أي يخفونه ولا يعلنونه.
ولما كان لا يلزم من ذلك علمهم به ولا يلزم من علمهم به استحضاره عند الكتمان قال: {وهم يعلمون} أي إنه حق وأنهم آثمون بكتمانه، فجعلهم أصنافًا: صنفًا عرفوه فاتبعوه، وصنفًا عرفوه فأنكروه كما في إفهامه وفريقًا علموه فكتموه؛ وفي تخصيص هذا الفريق بالعلم إشعار بفرقان ما بين حال من يعرف وحال من يعلم، فلذلك كانوا ثلاثة أصناف: عارف ثابت، وعارف منكر هو أردؤهم، وعالم كاتم لاحق به؛ وفي مثال يكتمون ويعلمون إشعار بتماديهم في العالم وتماديهم في الكتمان.
ولأن هذا المجموع يفيد قهر الحق للخلق بما شاء منهم من هدى وفتنة لتظهر فيها رحمته ونقمته وهو الحق الذي هو ماضي الحكم الذي جبلّة محمد صلى الله عليه وسلم تتقاضى التوقف فيه لما هو عليه من طلب الرحمة ولزوم حكم الوصية. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

حَمَلَتْهُمْ مُسْتَكنَّاتُ الحَسَدِ على مكابرة ما علموه بالاضطرار، فكذلك المغلوب في ظلمات نفسه، ألقى جلباب الحياء فلم ينْجع فيه مَلاَم، ولم يَرْدَعْه عن انهماكه كلام. اهـ.

.قال صاحب روح البيان:

عندنا ثلاث مراتب:
إحداها مرتبة التقليد وهى لعامة الناس.
والثانية مرتبة التحقيق والإيقان وهى للمجتهدين كالأئمة الأربعة ومن يحذو حذوهم.
والثالثة مرتبة المشاهدة والعيان فهى للكمل من أهل السلوك قال وإذا لم تتطهر النفس من الأخلاق الرديئة لا تحصل المعارف الآلهية وإن كان كاملا في العقل والعلوم ألا يرى أن الشيطان مع عقله وعلمه كيف استكبر وعصى أمر الله تعالى لما في نفسه من الكبر والحسد وكذلك حال أهل الكتاب في أمر القبلة وشأن النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم ينفع العلم والمعرفة لخبث باطنهم فلابد من تزكية النفوس وتصفية القلوب والاستقامة في باب الحق إلى أن يأتى اليقين. اهـ.

.قال البقاعي:

وفي تأكيد الأمر تارة بالعلم وتارة بالمعرفة وتارة بغيرهما تأكيد لوجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم وإزاحة لما يلقيه السفهاء العالمون به من الشبه. اهـ.

.قال الألوسي:

قوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي الشاكين أو المترددين في كتمانهم الحق عالمين به، أو في أنه من ربك وليس المراد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك لأن النهي عن شيء يقتضي وقوعه أو ترقبه من المنهي عنه وذلك غير متوقع من ساحة حضرة الرسالة صلى الله عليه وسلم فلا فائدة في نهيه، ولأن المكلف به يجب أن يكون اختياريًا، وليس الشك والتردد مما يحصل بقصد واختيار بل المراد إما تحقيق الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه أحد كائنًا من كان، أو الأمر للأمة بتحصيل المعارف المزيلة لما نهى عنه فيجعل النهي مجازًا عن ذلك الأمر وفي جعل امتراء الأمة امتراءه صلى الله عليه وسلم مبالغة لا تخفى، ولك أن تقول: إن الشك ونحوه وإن لم يكن مقدور التحصيل لكنه مقدور لإزالة البقاء، ولعل النهي عنه بهذا الاعتبار ولهذا قال الله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} دون فلا تمتر، ومن ظن أن منشأ الإشكال إفخام الكون لأنه هو الذي ليس مقدورًا فلا ينهى عنه دون الشك والتردد لم يأت بشيء. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فلا تكونن من الممترين}.
المراد بهذا الخطاب في المعنى هو الأمّة. ودل الممترين على وجودهم، ونهى أن يكون منهم، والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل. فقولك: لا تكن ظالمًا، أبلغ من قولك: لا تظلم، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم. وقولك: لا تكن ظالمًا نهي عن الكون بهذه الصفة. والنهي عن الكون على صفة، أبلغ من النهي عن تلك الصفة، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة. والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة. وفرق بين ما يدل على عموم، ويستلزم عمومًا، وبين ما يدل على عموم فقط، فلذلك كان أبلغ، ولذلك كثر النهي عن الكون. قال تعالى: {فلا تكوننّ من الجاهلين} {ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله} {فلا تكن في مرية منه} والكينونة في الحقيقة ليست متعلق النهي. والمعنى: لا تظلم في كل أكوانك، أي في كل فرد فرد من أكوانك، فلا يمر بك وقت يوجد فيه منك ظلم، فتصير كأن فيه نصًا على سائر الأكوان، بخلاف لا تظلم، فإنه يستلزم الأكوان. وأكد النهي بنون التوكيد مبالغة في النهي، وكانت المشدّدة لأنها أبلغ في التأكيد من المخففة. والمعنى: فلا تكونن من الذين يشكون في الحق، لأن ما جاء من الله تعالى لا يمكن أن يقع فيه شك ولا جدال، إذ هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يلحق فيه ريب ولا شك. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)}.
الله تبارك وتعالى يقول إن الذين جاءهم الكتاب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفونه.. يعرفون ماذا؟ هل يعرفون أمر تحويل القبلة؟ أم يعرفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه ورسالته التي يحاولون أن يشككوا فيها؟ الله سبحانه وتعالى يشرح لنا ذلك في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} سورة البقرة.
فكأن اليهود والنصارى يعرفون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.. ومكتوب في التوراة والإنجيل أنه الحق ومطلوب منهم أن يؤمنوا به.. إن كعب الأحبار كان جالسا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان موجودا فسأله عمر أكنتم تعرفونه يا كعب؟ أي أكنتم تعرفون محمدًا صلى الله عليه وسلم ورسالته وأوصافه؟ فقال كعب وهو من أحبار اليهود.. أعرف كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد.. فلما سألوه لماذا؟ قال لأن ابني أخاف أن تكون امرأتي خانتني فيه أما محمد صلى الله عليه وسلم فأوصافه مذكورة بالدقة في التوراة بحيث لا نخطئه.
إذا فأهل الكتاب يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرفون زمنه ورسالته.. والذين أسلموا منهم وآمنوا فعلوا ذلك عن اقتناع، أما الذين لم يؤمنوا وكفروا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفوا ولكنهم كتموا ما يعرفونه.. ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: {وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون}.. وساعة تقول كتم الشيء.. فكأن الشيء بطبيعته كان يحب أن يبرز وينتشر.. والحق بطبيعته لابد أن يبرز وينتشر ولكن إنكار الحق وكتمه يحتاج إلي مجهود.
إن الذين يحققون في القضايا الدقيقة يحاولون أن يمنعوا القوة أن تكتم الحق.. فيجعلون من يحققون معه لا ينام حتى تنهار قواه فينطق بالحقيقة.. لأن النطق بالحق عملية شاقة.. ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {ليكتمون الحق وهم يعلمون}.. أي أنهم ليسوا جاهلين ولكنهم على علم بالحقيقة.. والحق من الله فهل يستطيع هؤلاء كتمانه؟ طبعا لا، لابد أن يظهر.. فإذا انتشر الكذب والباطل فهو كالألم الذي يحدث في الجسد.. الناس تكره الألم ولكن الألم من جنود الشفاء لأنه يجعلك تحس أن هناك شيئا أصابه مرض فتتجه إليه بأسباب العافية.
إن أخطر الأمراض هي التي لا يصاحبها ألم ولا تحس بها إلا بعد أن يكون قد فات وقت العلاج.. والحق دائما غالب على أمره ولذلك لا توجد معركة بين حقين.. أما الباطل فتوجد معركة بين باطل وباطل وبين حق وباطل لأنه لا يوجد إلا حق واحد أما الباطل فكثير.. والمعارك بين الحق والباطل تنتهي بهزيمة الباطل بسرعة.. ولكن الذي يطول هو معركة بين باطلين.. ولذلك فإن معارك العصر الحديث تطول وتتعب الدنيا.. فمعارك الحرب العالمية الثانية مثلا لازالت آثارها ممتدة حتى الآن في الحرب الباردة وغير ذلك من الحروب الصغيرة.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» أخرجه الديلمى في مسند الفردوس.
{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}.
الحق من الله سبحانه وتعالى.. ومادام من الله فلا تكونن من الذين يشكون في أن الحق سينتصر.. ولكن الحق لابد من قوة تحميه.. وكما يقول الشاعر:
السيف إن يزهي بجوهره ** وليس يعمل إلا في يدي بطل

فما فائدة أن يكون معك سيف بتار.. دون أن توجد اليد القوية التي ستضرب به.. ونحن غالبا نكون مضيعين للحق لأننا لا نوفر له القوة التي ينتصر بها. وقوله تعالى: {فلا تكونن من الممترين}.. الممتري هو الذي يشك في حدوث الشيء.. والشك معناه أنه ليست هناك نسبة تتغلب على نسبة.. أي أن الاحتمالين متساويان.. ولكن الحق من الله ولا توجد نسبة تقابله.. ولذلك لا يجب أن نشك ولا ندخل في جدل عقيم حول انتصار الحق. اهـ.